أيمن شاكر يكتب : رأس السنة الهجرية : رحلة الضياء التي لا تنتهي كيف يخبو ضياءٌ في حناياه القمر ؟ وكيف تنتهي رحلةٌ بدأها المختـبـر ؟




بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر 

رئيس قسم الأدب ✍🏻 


في صمت الليل الذي يلف الكون ، يبزغ هلال ( محرم 1447 ) يوم 26 يونيو 2025 حاملاً في نوره ذكرى لا تُنسى :

ذكرى رحلة الإيمان العظيمة التي غيّرت وجه التاريخ ، هجرة الحبيب المصطفى ﷺ من مكة إلى المدينة . ليست مجرّد انتقال بين مكانين ، بل كانت ميلاداً لأمةٍ حملت مشعل الهدى للعالمين ، وانتصاراً للروح على المادة ، وتأسيساً لدولة الحق التي أقامت العدل في زمن الغابة.

هنا ، في هذا اليوم المهيب ، نستقبل عاماً جديداً ونحن نردد بقلوب خاشعة : كل عام ونحن نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، صلّوا على من مرّ على هجرته 1447 عاماً ﷺ.


تعود بنا الذكرى إلى اللحظة الفارقة عندما اجتمع الصحابة حول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، يشاورونه في أمر يؤرّخون به الأيام بعد أن تلقّى رسالة من أبي موسى الأشعري تشكو التباس الزمن . اقترحات تعددت : أرّخوا بالمبعث ، أرّخوا بالهجرة ، حتى ارتفع صوت الحكمة :

" الهجرة فرقت بين الحق والباطل " . فكان قرارٌ غير مجرى التاريخ : أن يكون شهر ( محرم ) بداية التقويم ، الشهر الذي يعود فيه الحجاج إلى ديارهم بعد أداء المناسك ، ليكون رمزاً للبدايات الطاهرة والعهود المتجددة . وها نحن اليوم ، عندما تغرب شمس 25 يونيو 2025 (29 ذي الحجة 1446) ، نترقب ولادة الهلال في سماء مكة المكرمة ، ليبشر ببزوغ فجر عام 1447 هـ، تقويماً قمرياً أوصانا الله باتّباعه في محكم كتابه : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} ، نسيجاً زمنياً يربط قلب المسلم بأعظم شعائره وأقدس أيامه.


وتتجلى روح الأمة الواحدة في لوحة رائعة من التقاليد المتناغمة رغم تباعد الديار ، ففي ساحات المسجد الأقصى المبارك ، تتعالى الأدعية والمواعظ ، وفي البيوت الجزائرية تتفنن الأيدي في إعداد "الكُسْكُس" و"الشخشوخة" ، بينما يغمر كبار العائلة الصغار بالحلوى في طقس "الدارس" طلباً للبركة . وفي البيوت الأردنية ، تعبق الأجواء برائحة "حلوى المشبك" الشهية ، فيما يصدح "الدان الحضرمي" في حضرموت اليمنية مصاحباً لوعاء "الحساء التراثي" الدافئ .

كل هذا التنوع العجيب يجتمع على قلب واحد : تبادل التهاني بنفحات المحبة ، وارتداء الجديد علامة على التجدد ، واستحضار الحقيقة الأزلية : أننا أمة واحدة ، كتبت وحدتها بمداد من التضحيات في درب الهجرة المبارك.


فإن الهجرة ليست حدثاً غابراً في طي الماضي ، بل هي مدرسة خالدة توقظ في ضمير المسلم أعظم الدروس كلما دارت الأيام . إنها درس { التوكل مع الأخذ بالأسباب } ، حين خطط الرسول ﷺ للرحلة بدقة بالغة : اختيار الدليل الخبير عبدالله بن أريقط ، وسلوك الطريق غير المألوف ، وكل ذلك وهو يردد : "اللهم أعني على قريش بما شئت" ، وهي أيقونة التضحية المجسدة في علي بن أبي طالب رضي الله عنه حين نام في فراش النبي مستهيناً بسيوف القاتلين ، وفي أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وهي تسلك درب حراء الوعر حاملة الزاد حتى سُميت "ذات النطاقين". وهي فوق ذلك ، نموذج البِنَاء من بين الركام ، فلم تكن الغاية النجاة فحسب ، بل تأسيس مجتمع المؤاخاة الذي ذاب فيه الفقر في بحر التكافل ، وإقامة سوق للمسلمين ، وإرسال البعوث لتعلم الحرف ، لتبني الدولة أركانها على العلم والاقتصاد القوي.


وها نحن على أعتاب عام 1447 هـ، وأمتنا تواجه أعاصير التحديات التي تحاول طمس هويتها ، فتأتي ذكرى الهجرة كالمنارة في ليل الظلام. في صبر النبي ﷺ على أذى قريش ، نجد اليقين بأن بعد العسر يسراً ، وفي تضحية الصحابة الذين تركوا الديار والأموال ، نستلهم أن حرية العقيدة أغلى من كل متاع الدنيا.

وفي الوحدة التي نسجها المجتمع المدني الأول ، نرى أن قوتنا الحقيقية في تلاحمنا وتراحمنا. لقد نادانا الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} ، فلتكن هذه الآية شعارنا في عامنا الجديد.


فليكن عام 1447 هـ صفحة ننفض فيها غبار اليأس ، ونخط عليها سطور النهضة بإبرة الإرادة وخيط الإيمان. عام نُحيي فيه كلمة التوحيد جهاداً بالعلم ، وإتقاناً في العمل ، وثباتاً على المبدأ. من ظلمات غار ثور إلى آفاق الكون السحيقة ، يبقى نور الهجرة سارياً في شرايين الزمن ، دليلاً على أن الحق لا يموت. 


كيف يخبو ضياءٌ في حناياه القمر ؟

وكيف تنتهي رحلةٌ بدأها المختـبـر ؟  

كل عام وأمتك - يا رسول الله - تواصل مسيرتها من هجرة إلى هجرة ، ترفع راية "لا إله إلا الله" في كل زمان ومكان ، حتى تلقاك فتقول :

"هذه أمتك يا حبيب الرحمن ، ما زالت تستمد العزيمة من خطاك ، والصبر من بلواك ، والأمل من هجرتك الخالدة ، وتسلم على من مرّ على هجرته 1447 عاماً ﷺ ،

وتهمس : ها نحن على الدرب ، لم ننحرف ، ولم نضع الدليل ، ننتقل من هجرة إلى هجرة ، حتى نلقى وجه ربنا ، راضين مرضيين ، فلتكن شهادتنا عند لقاك : لقد حفظنا الأمانة .


اللهم صل وسلم وبارك عليك يا حبيبي يا رسول الله 


سنلتقى إن كان فى العمر بقيه 

إرسال تعليق

أحدث أقدم