بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر
رئيس قسم الأدب ✍🏻
في زحمة الحياة وضوضائها ، حيث تُعلن الأعمال وتُسجل الإنجازات ، وتُقاس القيم أحيانًا بمدى الظهور والاعتراف الاجتماعي ، تأتي كلمات الحكمة لتُذكرنا بحقيقة أعمق ، ومسارٍ أخفى ، لكنه الأضمن والأصدق :
🩸"اصنعوا بينكم وبين الله طريقاً لا يراكم فيه أحد ولا يعلمه أحد ، خبئوا لأنفسكم صالحات تنفعكم يوم لا ينفعكم فيه أحد ." هذه الوصية ليست مجرد دعوة للعبادة ، بل هي فلسفة حياة ، وسبيل نجاة في عالم يلهث وراء الصورة والظاهر.
💧ما سر هذا "الطريق السري ؟
إنه طريق الإخلاص. طريق تُفرد فيه سجادة قلبك لله وحده، لا يراك عليها سواه. طريق تُسكب فيه الدموع في جوف الليل ، تُرفع فيه الأكف بالدعاء في زوايا المنزل المظلمة ، تُخرج فيه الصدقة واليد اليسرى لا تدري ما أنفقت اليمنى ، تُقضي فيه ساعات في تلاوة القرآن لا يعلم بها إلا الله وملائكته . إنه التحرر من رقابة المخلوقين وطلب مدحهم ، والارتقاء إلى مستوى مراقبة الخالق وحده. حين يكون الله هو الشاهد الوحيد ، تكون العبادة نقية من شوائب الرياء ، قوية في جذورها ، ثابتة أمام عواصف الدنيا.
💧لماذا "خبئوا" الصالحات ؟
الاختباء هنا ليس جبناً، بل حكمة وقوة:
١- حصانة من الرياء : أعظم عدو للعمل الصالح هو أن يُرى. الاختفاء يحمي العمل من أن يُسرق بريقه الداخلي بطلب الثناء الخارجي.
٢- إختبار حقيقي للنوايا : حين لا يعلم أحد بعملك ، تكون صادقاً مع نفسك ومع ربك . هل تفعله حباً في الله وخوفاً منه ، أم رغبة في سمعة زائلة ؟
٣- قيمة مضاعفة عند الله : الله يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، العمل الخفي دليل على صدق العبد ، فيضاعف الله أجره ويعلي منزلته عنده.
٤- بناء شخصية روحية قوية : الاعتماد على الرضا الإلهي وحده يُنشئ شخصية مستقلة ، واثقة لا تتزعزع بتقلبات آراء الناس أو نسيانهم.
٥- استثمار للحظة الحاسمة :
"يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ". تلك الصالحات المخبأة هي الذخيرة الحقيقية ، العملة الصالحة التي لا تنخفض قيمتها في سوق ذلك اليوم العصيب . هي الرفيق الذي لا يخون ، والشفيع الذي لا يخذل.
💧كيف نصنع هذا الطريق ونخبئ الصالحات ؟
* العبادات القلبية الخفية : الإخلاص
، التوكل ، الخشية ، الرجاء ، حب الله وخشيته في السر.
* الصدقة السرية : إدخال السرور على محتاج دون أن يعلم بك أحد ، إيداع مال في جيب فقير وهو نائم ، دفع فاتورة يتيم دون إشهار.
* الدعاء في جوف الليل : تلك المناجاة التي تهز عرش الرحمن ، بين النائمين والغافلين.
* الذكر الخفي : ترديد الأذكار ، والتسبيح ، والاستغفار في خلواتك ، في الطريق ، في عملك ، دون حركة الشفاه أحياناً.
* أعمال البر غير الظاهرة : مساعدة جار في الخفاء، إصلاح ذات البين دون ذكر اسمك، تعليم شخص شيء نافع دون مقابل أو ظهور.
* كف الأذى والباطل سراً : ترك الغيبة والنميمة والظلم حتى لو استطعت في الخفاء ، ضبط اللسان والجوارح عندما لا يراقبك بشر.
🩸الطريق السري : ملاذ وخلاص
في عالم تذوب فيه الخصوصية وتُراق فيه الحيوات على شاشات العرض ، يصبح "الطريق السري" إلى الله ملاذاً آمناً ، ومدرسةً لتربية النفس . هو المكان الذي تستعيد فيه روحك عافيتها ، وتستمد منه قوتها الحقيقية . إنه تذكير بأن القيمة الحقيقية للإنسان ليست فيما يظهر للناس ، بل فيما يُخبئه لربه ، وفيما يُزرعه في باطن نفسه من إيمان وعمل صالح.
ذلك اليوم العظيم آتٍ ، يوم تقف فيه وحيداً أمام الله ، ليس في جيبك شهادات تقدير ، ولا على صفحات التواصل ذكرى إعجابات ، ولا في سجلات الناس سطور تشهد لك ، يوم يُنسى كل من عرفك ، ويُغفل كل من مدحك. في ذلك الموقف المهيب ، لا ينفع إلا ما خبأته لروحك في خزائن الغيب، ما سقيت به جذور إيمانك بعيداً عن أعين الرقباء ، ما قدّمته بين يديك طاهراً نقياً لله وحده. تلك الصالحات المخبأة ستكون نوراً يسعى بين يديك في الظلمات ، شفيعاً يرجو لك الرحمة ، وجسراً يعبر بك من هول الحساب إلى رحاب الجنان.
💧فأسرعوا - رحمكم الله - إلى بناء هذا الطريق السري ، واحرصوا على تخزين هذه الصالحات الخفية. فهي زاد لا ينفد، ونور لا يخبو ، وشفيع لا يخذل ، في يومٍ تُبلى فيه السرائر ، وتُعلن فيه الخفيات ، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. يوم لا ينفع إلا صدقٌ خفي ، ودعوةٌ في ظلمة ، ودمعةٌ لم يمسحها أحد ، وصدقةٌ لم يعلم بها بشر. يوم تكون فيه خلوتك مع الله هي خلاصك ، وإخلاصك له هو جنتك ، فاخبئوا لأنفسكم ، فما أخفيته اليوم عن أعين الناس ، سيكشفه الله غداً نورًا ونجاةً ، حين يكون الخفاء هو الفوز ، والسر هو الخلاص .
سنلتقى إن كان فى العمر بقيه