المستشار محمد طلبه شعبان يطل على ذكرى نصر اكتوبر إطلالة بانورامية بقصيدته ( بانوراما حرب اكتوبر )
والدكتور احمد صلاح هاشم يعنون قراءته النقدية ( رؤية بانورامية لقصيدة منتصِرة
===============
منحازٌ لكتابات الشاعر محمد طلبة شعبان (وللألقاب كل تقدير)، ذلك أنَّه أسَّس مبكرًا وسريعًا مدرسة شعرية محافظة في البنية والشكل، حداثية في الغرض والمضمون، غير متقاطعة مع القديم، لكنها لا تتعبَّد في محرابه.. قصيدة تشبه الحرية التي لا تأتي إلا بعد صراع بين الأُطُر والانفكاك عنها.. فهي بذلك قصيدة تشبه الانتصار ذاته.
في مطلع "بانوراما حرب أكتوبر" يرسل الشاعر نداءً جهوريًّا يخاطب به التاريخ مباشرة: "يا أيها التاريخ سجل للورى/ تشرين كثّف للزمان دقائقه"؛ لا يبدأ الشاعر من ذاته، إذًا، بل من كيان أكبر: التاريخ نفسه متجسدًا في صورة منادى، ليضعه في موضع الكاتب الذي يُسجّل لكن بغير برودة طبعه، بل وفق تكثيفٍ استثنائي يجعل دقائق تشرين أثقل من قرون. كأن الزمن في لحظة العبور قد انضغط ليصير كرة ملتهبة، كل ثانية فيه تعادل حياة بأكملها.
ثم يأتي البيت الثاني: "واذكر له يوم العبور محذراً/ إياك تنسى درسه وسوابقه". لينتقل الشاعر من الطلب إلى التحذير، كأنه يقول للتاريخ: فلنتجاوز الكتابة التسجيلية إلى الرواية الشفهية، فتستعصي الحادثة عن النسيان؛ لأنها محفورة في القلب والوجدان معًا، بما يحيل العبور إلى حالة طقوسية أسطورية أكثر من كونه موجة في حركة التاريخ؛ إذ الهدف إذكاء نار التعلُّم، وإرشاد الأجيال الجديدة.
ثم يرجع النص إلى صوت جمعي: "فالأم نادت للجميع تعاضدوا/ والجار سوء تعرفون بوائقه". الأم هنا كل الأمهات، والجار ليس بالجنب، بل هو مزروع مثل نبتة شيطانية. إنه رمز العدو الغادر، الذي لا يؤمَن بوائقه، وفيها عودة إلى معجم الحديث الشريف، وتذكير بأنه ما دام "جارًا" بفعل الواقع؛ فلا أقل من احترام هذه الجيرة، لكن العدو خذول، والكراهية حقد أسود، والخيانة عهد ودين. هكذا يصنع الشاعر تضادًا بلاغيًا بين الأم التي تدعو للحياة، والجار الذي يتقن صناعة الموت؛ هي الأم التي ترشد أبناءها للتجمع، وجار السوء الذي يجنح للتفريق والتمزيق، أم تهب الحياة وعدوّ يتغذى عليها.. يقول فاروق جويدة في فكرة على بساطتها عميقة:
أيَّ الوجوهِ سيذكُرُ التاريخُ
جَلَّادٌ حَقِيرٌ..
أَمْ شَهِيدٌ عطَّر الدنيا ثراهْ..؟
فرق كبير..
بين من سلب الحياة من الشعوب
ومن أعاد لها الحياةْ
ثم يُصعّد الموقف في فنية وزخرفة معًا: "والأرض عرض نفتديه ونرتضي/ لو علّقوا فوق الجبال مشانقه". الأرض تتحول إلى مرادف للعرض، أي للشرف، إنها صورة المصري الذي عرف الاستقرار والزراعة فعرف معهما حب المكان.. (الأرض لو عطشانة) صورة تسكن مخيلته، وهيئة محمود المليجي وهو يُسحل مجرجرًا متشبثًا بطينه كوَّنت شخصية المصري (كما أشار جمال حمدان). وما أروع/ أرعب صورة المشانق المعلقة فوق الجبال؛ لم تعد أداة تخويف بقدر ما هي قربان طقوسي يُدفع عن طيب خاطر. إنها بلاغة الاستعلاء على الموت، حيث الإعدام يتحول إلى رقي، والموت يكون عتبة في صناعة معادلة قوامها (التحرير التام أو الموت الزؤام)!
ويكمل المشهد: "والأمر جاء من القيادة خفية/ والجيش جهز للقتال فيالِقَه". هنا يرسم الشاعر صورة الظل والصمت قبل الانفجار. القيادة تُخفي الأمر، والجيش يستعد في صمت رهيب، مشهد مرسوم لا مكتوب، وعاصفة تتهيأ للانقضاض. ليأتي البيت التالي صاعقة (خضَّة) مقصودة صانعة الدهشة والمفاجأة مع بعض: "والنسر حلَّق بالسماء مزمجراً/ يلقي على نقط العدو صواعقه". النسر هنا يتجاوز كونه رمزًا على سلاح الجو، متحولًا إلى أسطورة سماوية، سيطرة وثبات وتركيز، وهيبة، وكلها صفات تسكن النسق المضمر في البيت لتحيله إلى نوع من أنواع التمتين للفكرة والصورة الذهنية.
ويستدعي الشاعر البعد الروحي: "والحر يشحذ بالصيام عزيمةً/ والجند شد سلاحه وبنادقه". هنا نجد معادلة عجيبة؛ فالصيام يصبح قرين البندقية، والعزيمة الروحية توازي القوة المادية، ولا أعرف صورة مباشرة في الشطر الثاني جاءت في الشعر العربي لصورة استعارية في البيت الأول، فتحول البيت كله إلى خيال، كأنما الشحذ أطلق شرزًا أشعل البيت على نار هادئة؛ أيكون البيت إشارة إلى أن النصر وليد الجوع المقدس مثلما هو وليد الحديدوالنار؟
ثم يصف المعجزة الهندسية، وهي سلاح آخر من أسلحة إدارة معركة الكرامة، والسعي لاسترجاع الأسلاب: "نصبوا الجسور كأنها مبنية/ والموج يرتق بالرجال فوارقه". تتبدل ها هنا قوانين الطبيعة؛ الجسور تُنصب في غير زمن، والموج نفسه يتعاون مع الرجال ليرتق الفجوات. هكذا تتحول البيئة المائية إلى حليف للإنسان، وينصهر الإنسان مع الكائنات في معادلة البحث عن النصر، فتنضبط المخرجات!
"عبروا القنال بقارب وكتيبة/ والأسد تعرف للعبور طرائقه". الجنود يصبحون أسودًا هذه استعارة تصريحية معروفة، أما توزيع العبور بين الصدر والعجز في البيت، فهو المعجزة الحقيقية؛ إذ يجعل من الكلمة نفسها عبورًا بين الشطرين وحركة مستمرة بمنفذين للخروج والدخول، فكان لا بد للأسد هنا أن تعرف الطرائق، لا شك أن القوارب هنا تصبح أقرب إلى مخالب، والعبور يكون ملتصقًا بغرائز الأسود الأساسية، التي تعرف بملكتها الفطرية مواضع الفرائس!!
وفي استكمال لأدوات المعركة، نلمح بصيص ضوء شعري على الضفة الأخرى، حيث تقبع المدافع: "والرمي من شط القناة منسق/ والنار تمحو للعدو خنادقه". خارج هذا السياق، كلمة (منسق) غير شعرية، لكن داخله، تأتي لتعلن عن انضباط النار لتكتمل لوحة قوامها الحركة والصوت واللون، فالرمي منسّق كالسيمفونية، والنار تمحو خطوط العدو بلون اللهب، وتتحول المدفعية إلى قيثارة موت في الاتجاهين الصاعد والهابط، الراجع للملء بالذخيرة والقافز القاذف لها على الضفة الأخرى.
فلا شك أن النتيجة ستكون: "بارليف يبكي بالدموع مرارة/ فالماء بعثر بالشداد مرافقه". خط بارليف، الذي صُوِّر كحائط فولاذي، يسقط إنسانيًّا في صورة رجل ذليل يستحق العطف والشفقة أكثر مما يحتمل التعذيب، وفيه انتقامية من التسلط القائم، والصلف المختبئ وراء أسطورته الورقية. والماء، رمز الحياة، هو الذي بعثر التحصينات، فصار جنديًا متحركًا؛ «إذا التقى الماء بالنار.. فالنار - لا شك - مهزومة»!
وهو مثل صينيّ، في العفو ومكافأة الإساءة بالإحسان، ولا أفضل إحسانًا من إنهاء الغرور والتكبر، والعودة لصحوة الضمير.. كما قال شوقي:
كل دار أحق بالأهل إلا في خبيث من المذاهب رجسِ!
لتستمر عدسة المصوِّر الشاعر القاضي في التركيز على الملحمة: "والجند في شرق القناة تكاثروا/ والثأر يشعل في العدو حرائقه". الجند فيضان بشري، والثأر هو الزيت الذي يشعل الحرائق، وقود الغضب يدير ماكينة الانتقام، "وعلى ضفاف النار كانت ضربة/ والدم يروي غربه ومشارقه". الدم هنا ماء الري، لكنه يتجاوز ريّ المحاصيل إلى أن يصير كل شيء، لون السماء والأرض، والجهات الأربع، فكأنها بشارة درويش:
غضب أنا
غضب فمي
ودماء أوردتي عصير من غضب..!
ليبلغ المشهد ذروته: "رفعوا السواري للعنان وكبروا/ هدموا على رأس العدو طوابقه". رفع الرايات والتكبير يلتقيان مع فعل الهدم، في اتحاد مدهش بين الديني والعسكري، ومفارقة الارتقاء والانحطاط، ليُعاد ترتيب الأبجديات، وتُعرف المقامات، بالقوة وحدها (اللغة التي يفهمها المتمترس خلف الساتر)!
ثم تجيء على مهل الصورة التي اجتمعنا فيها مع الكاتب على جمال مباشر عميق في آن: "(عسافُ) سلم نفسه لـ(عمارة)/ (مصري) يقنص بالسهام نوافقه". إدخال الأسماء يعزز مصداقية المشهد، فما كانت صناعة الأسطورة تحتاج إلا إلى شاهد واقعي لنتثبت، وتتحوَّل الكتابة من فعل تجريدي إلى حقائق لا جدلية، يسري عمارة، المصري الذي أسر قائد لواء بكامل جنوده، وإسقاط السهام على كل أنواع التسليح، مع مغزى ودلالة (نوافق) بدلًا من قتلى، مجاراة لأفعالهم الحيوانية، وتأكيدًا على تأنيثهن في مواجهة ذكورة البطل، تأسيس لحالة سردشعرية كاملة الملامح.
ثم يعود الإيقاع المقدس: "الله أكبر زلزلت وطن الفدا/ سيناء نادت بحره ومضايقه"، يصير التكبير زلزلة روحية وجغرافية، وسيناء تتحول إلى كائن حي ينادي ببحره وجباله، فالهتاف هتاف الأرض لا الجنود، فتنعكس الصورة التقليدية، ليتجمد الرجال عابرو القناة فيصبحوا تماثيل تمجيد غير عابرة، وتتحول الأرض إلى ديناميكية؛ فهي التي تقول، وصدى الجنود يردِّد!
ويصوغ صورة كلية: "والأرض غنت والسماء تباركت/ والشعب أظهر للعدو خوارقه". كونشيرتو الطبيعة، وإعادة لهدوء الأجواء وصفائها، وخروج من حالة القتال إلى الإطار الأوسع، فالأرض مغنية، والسماء مبارِكة، والشعب صانع معجزات. جوقة غناء وعزف سيمفونية.
ثم يتقدم الشهيد إلى المشهد: "فأخو الشهيد على الثغور مرابط/ والفرح يرسم في البلاد مناطقه". الشهادة لا تورث الحزن بل الفرح، فالأخ يحرس والبلاد ترسم خرائط الفرح بالدم.
ثم نصعد إلى الذروة سريعًا، حيث يظهر لنا أنه "ويد العروس تخضبت بدمائه/ والنيل يكتب للعريس وثائقه". هنا يتجاوز الشعر الرمزية التقليدية منغمسًا في رمزية مشهدية، صانعة مفارقة تتجاوز الحالة النفسية إلى بلاغة الشكل؛ فدم التضحية حناء العروس، والنيل كاتبُ العقد الأبدي بين الوطن وأبنائه الشهداء. هل ثمَّةَ مزاوجة بين المأساة والعرس، إلا في مثل هذه الذروة البلاغية التي لا تُنسى؟! كيف يغير الانتصار مصيبة الموت، ويشعل في النفس سعادة الكرامة التي تتجاوز ألم كل فداء... "والشعب هلَّل والبلاد تزيَّنت/ والكل أظهر فضله ورقائقه"... إنه عرس جماعي، وحالة من حالات الاحتفاء المهرجاني الكرنفالي.. تجميد لحظة النصر، والسعي لاستعادتها. إعادة استطعامها مرة بعد مرة، لتكوين ذائقة مدربة تستسيغ طعم النجاح، فلا هزيمة بعدها!
ثم يضع فوق الجبال والمشانق والدماء والحرائق والسهول والمضايق والانتصار والسعادة والسرادق: "الله أكبر فوق كيد المعتدي/ والبدر أهدي للصليب حقائقه". فالله أكبر فوق كيد المعتدي، وفوق كل ما سبق، وهي بينة الانتصار وسبب اتصاله السماوي، وإرجاع النتائج لمسبباتها الحقيقية، تحاضنًا بين البدر والصليب؛ الانتصار كان روحيًّا كما كان جسديّا، ثمةَ معارك تُكسب في ساحة الوغى لكن حسمها الأول يكون في السماء من قبل أن تُعقد المعارك، أو يتهيأ الجنود!
ثم يعود الختام إلى البداية: "يا أيها التاريخ سجِّل للورى/ تشرين كثف للزمان دقائقه/ واذكر له يوم العبور محذراً/ إياك تنسى درسه وسوابقه". إنه إغلاق دائري محكم، يعيدنا إلى نقطة الانطلاق، فالملحمة خالدة لا تكتمل إلا بتكرارها، والتذكر استعادة، والانتصار يتحقق فقط إذا حفظناه في الأذهان، ويذوي لو سقط من الذاكرة؛ لأن الذين لا يحفظون تجارب التاريخ ودروسه، محكومون بتكراره عليهم، ووقوعهم في الفخ ذاته!
هكذا، بيتًا تلو البيت، تصوغ القصيدة ملحمة بانورامية تمتد من صرخة الأم حتى حناء العروس، وبينهما ارتفاع وسقوط، ومن الاستنزاف حتى اللحظة الآنية المطعَّمة بمذاق الانتصار، ثم من زلزلة الجنود إلى حدائق النصر، مرورًا بدموع بارليف. نص ناضج مستوٍ على عوده أخضر كأرض المصريين اليانعة التي تريح الناظرين، المعجزة التي علمت المصري أن يدرك الوطنية مبكرًا قبل الأمم والشعوب..!
هل يريد شاعر القضاة، وقاضي الشعراء أن يعلمنا (إلى جانب الإبداع الملازم للتمكُّن من الأدوات وتمكين البلاغة) أن أكتوبر أكبر من نصر، وأوسع من وطن، وأجلّ من قيمة، وأنه عقيدة راسخة، ومنهاج حريَّة، لا يتأتى إلا إذا كان الوطن حرًّا، ولو تطلب الأمر كل تضحية؟!