أيمن شاكر يكتب : عندما تتجعد القلوب : النضج الحقيقي بين لمسات الفقدان وصوت الصمت

 


بقلم الكاتب الصحفى أيمن شاكر 

رئيس قسم الأدب ✍🏻 


نخيل دائما أن محور ارتكاز نضجنا يدور حول علامات ظاهرة تفرضها سنوات العمر بلا رحمة : خصلة بيضاء تطلع فجأة كنذير صامت ، أو سن يغادر مكانه بعد عقود من الطحن والمضغ ، أو نظارة تتحول إلى جزء لا ينفصل عن وجهنا ، كستار بيننا وبين وضوح العالم .

نحاول قياس كبرنا بهذه الشواهد المادية ، كأن الجسد هو سجل رحلتنا الوحيد . لكن الحقيقة المرة ، والجميلة في آن واحد ، هي أننا لا نكبر حقا بفعل تلك العلامات الظاهرة .

إنها مجرد وهم لطيف نخدع به ، بينما تحدث المعجزة الحقيقية ، معجزة النضج ، في مكان آخر أعمق وأكثر خفوتا وألما : في أعماق القلب.


💧نحن نكبر بوقاحة وقسوة عندما يختطف الموت من نحب . ذلك الصوت الذي اعتدنا سمعه ، تلك اليد التي كنا نلمسها ، ذلك الوجود الذي كنا نعتقده أبدياً كالهواء ، يختفي . لا مقدمات تفي ، لا تحذيرات كافية.

فجأة ، نجد أنفسنا وحدنا أمام هوة من العدم ، نتعلم دروسا قاسية عن هشاشة الحياة وديمومة الفقدان . كل موت لعزيز يحملنا قسرا إلى مدرسة لم نرد الالتحاق بها ، يجبرنا على فهم معنى "الأبدي" بمعناه الأكثر قبحا :

الغياب الأبدي . هنا ، في وسط ذلك الألم الصامت المدوي ، تنكسر براءتنا ، ويبدأ قلبنا بحمل أولى تجاعيد النضج ، تجاعيد من دموع جافة وذكريات ثقيلة.


💧ونكبر عندما تصرخ آذاننا صامتة ، تتضوّر جوعا إلى كلمة حب عابرة ، إلى لمسة اطمئنان ، إلى صوت يهمس : "أنت لست وحدك". نبحث عنها في عيون الآخرين ، في فرجات الصدفة ، في زحام الشوارع ، لكنها تهرب كالرمل بين الأصابع. هذا الجوع العاطفي ، هذه المفارقة المحزنة بين رغبتنا الشديدة في السماع وصمت العالم من حولنا ، تزرع فينا وحدة مختلفة. وحدة تعلمنا أن الحب ليس حقا مكتسبا ، بل هبة نادرة تستحق الشكر والحرص ، وأن صوت القلب الخائف أحيانا هو أعلى أصوات الحاجة التي لا يجيب عليها أحد. كل صرخة صامتة تخدش سطح قلبنا، مضيفة تجعيدة أخرى لسجل نضجنا الأليم.


🩸ويأتي الخريف ، لا خريف الأوراق والأشجار ، بل خريف العلاقات والبشر . يعصف فجأة ، فتتساقط الوجوه المألوفة كأوراق يابسة تحملها رياح الغربة أو الخيانة أو المصلحة أو الموت البطيء للصداقة . ننتبه وحولنا فراغ لم نكن نستشعره بهذه القسوة من قبل . نحاول التمسك ببعض الأذيال ، ببقايا ضحكات زائفة مع أشخاص أصبحوا أشباحا في حياتنا ، نعلم أنهم زائلون ، لكننا نتمسك بشبح الدفء الذي كانوا يمثلونه. هذه المشاهد المحزنة لتساقط البشر هي محرقة براءتنا . نتعلم أن الثبات وحده للقلب الواعي ، وأن الوجود الحقيقي أثمن وأقل مما كنا نتخيل. كل وجه يغيب ، كل علو ينهار ، يعمق تجاعيد القلب ، تجاعيد الفهم المتأخر لثمن الوجود الأصيل.


🩸وكم هو موجع أن تشرق الشمس وتغرب ، تتوالى الأيام والأحداث الصغيرة والكبيرة ، ولا تجد من تشاركه تلك التفاصيل "الساذجة" :

طعام لذيذ صادفته ، نكتة سمعتها ، مشكلة أزعجتك ، حلم راودك. تلك التفاصيل التي تبدو بسيطة ، لكنها نسغة الحياة الحقيقية. عندما تتراكم هذه اللحظات غير المشتركة ، نشعر بثقل غريب في الصدر. نفهم أن المشاركة هي نسيج الإنسانية ، وأن عدم وجود من يسمع تفاصيلنا هو نوع من الموت البطيء لجزء من أنفسنا . هذا الصمت المحيط بتجاربنا اليومية يذكرنا بهشاشة الاتصال ويضيف طبقة أخرى من الوعي الحزين إلى قلوبنا.


💧ليس الشيب هو من يصنع الشيخوخة ، ولا السنين المفقودة ، ولا ضعف البصر. هذه أعراض ظاهرة لعمر الجسد. أما نضج الروح ، وشيخوخة المشاعر الحقيقية ، فتنبع من داخل. من حيث تهرم القلوب. تهرم بحمل أوجاع الفقدان التي لا تبرأ ، وبصرخات الحب التي لم تصل ، وبصدمات الخريف الإنساني الذي يجتث من حولنا ، وبثقل التفاصيل غير المشتركة التي تتراكم كغبار على روحنا . هذه التجاعيد غير مرئية على سطح القلب هي سجل رحلتنا الحقيقية ، هي بصمات الألم والفهم ، هي الدليل الوحيد على أننا عشنا بعمق ، أحببنا بجروح ، وواجهنا صعب الحياة لا بأسناننا ولا ببصرنا ، بل بقلب تجعد ، تألم ، وازداد إنسانية وحكمة في صمته البليغ ، فالأجساد تشيخ بالفعل ، لكن القلوب وحدها من تهرم لتخبرنا بأننا كبرنا حقا ، في مدرسة الحزن ووحدة الروح وصخب الصمت .


سنلتقى إن كان فى العمر بقيه 

إرسال تعليق

أحدث أقدم